أحدثَ تأسيسُ عكاظٍ تحوُّلاً جذريّاً في حياةِ الأمّةِ العربيّةِ، ونقلَها من طورِ التجزئةِ إلى طورِ التّوحّدِ في إطارِ ملتقىً عربيٍّ يتَّخذُ من الحنيفيّةِ مثلاً أعلى، وكان لا بدَّ لهذا الحدثِ العظيمِ من أن يعكسَ صداهُ القويَّ في الحياةِ الأدبيّةِ لهذه الأمّةِ شعراً ونثراً، ومن الطّبيعيِّ أنّ النّتاجَ الأدبيَّ لأيِّ أمَّةٍ يتفاعلُ مع البيئةِ التي تظلُّه ويخضعُ لمؤثِّراتها.
وحينَ تُرصدُ الظواهرُ الأدبيّةُ في العصرِ العدنانيِّ يتبيّنُ بجلاءٍ ما تركهُ عكاظٌ من بصماتٍ واضحةٍ في مسيرةِ الأدبِ في ذلك العصرِ وفي سماتِه وخصائصِه. ومن أبرزِ آثارِهِ تطوُّرُ فنونٍ أدبيّةٍ قديمةٍ كانت مزدهرةً في مملكة حمير، فقد قلّصَ عكاظٌ من سجعِ الكهّانِ الذي كان موجوداً في ذلك العصر، وابتعدَ الخطباءُ عن محاكاةِ ذلك السَّجعِ في خطبِهم، وظهرَ لونٌ من الخطابةِ يستقي من ينابيعِ عكاظ، وأخذَ الشعراءُ يعزفونُ عن النّظمِ في الأغراضِ التي كانت حياةُ العربِ في ممالكِ حميرٍ وآلِ ثورٍ تدعو إليها، واتّجهوا إلى أغراضٍ دعَتْ إليها البيئةُ الحنيفيّةُ كشعرِ المعاركِ والحروب، وأصبحَ شعرُهم يدورُ حولَ معانٍ تتّصلُ بالقيمِ والمثلِ النّبيلة، وقد أوجدَ عكاظٌ مبادئَ خلُقيّةً تلائمُ تعاليمَه وروحَهُ، فانعكسَت هذه المبادئُ في النّتاجِ الأدبيِّ عصرَئِذ.
وكان عكاظٌ يدٌ لا تنكرُ في ازدهارِ النّثرِ الأدبيِّ، ولا سيَّما الخطابةُ والتَّرسُّل، فقد أصبحَت الخطابةُ وسيلةً لنشرِ القوانينِ، والوعظِ، وبيانِ مبادئِ الحنيفيّةِ، والحضِّ على الجهادِ، والدّعوةِ إلى مكارمِ الأخلاقِ، وبيانِ خطّةِ الحكم، وكان أهلُ الحجازِ خطباءَ مفوّهين، وكذلك كان جلُّ عمّالِهم وقوّادِهم.
وقد دعا قيامُ دارِ التَّدوينِ، وذُيوعُ صيتِها، واتّساعُ سلطانِها، إلى الاستعانةِ بالكتابةِ والكتّاب، وكان تدوينُ الكتبِ محدودُ الانتشارِ في العصرِ اللّحيانيّ، إذ كان مقتصراً على القضاةِ والوزراء، فاتّسعَ له المجالُ في العصرِ العدنانيِّ، وأقبلت النّاشئةُ على تدوينِ الكتب.
الفنون الأدبية في العصر العدناني
بلغَتِ الفنونُ الأدبيّةُ في العصرِ العدنانيِّ (الروايةُ والخطابةُ والمسرحُ والكتابةُ) مستوىً رفيعاً من النّضجِ والنّماء، وذلك لتضافرِ الكثيرِ من العوامل، كوجودِ مسرحِ عكاظٍ، ومفوضيّةِ التّحكيمِ القائمةِ عليه والتي تضمُّ نخبةَ أدباءَ وحكماء، وكان المسرحُ قائماً على القصّاصين الذين يتقنون فنَّ الإلقاءِ، وتمثيلَ الوقائعِ التي يسردونها.
وكان لفنِّ الرّوايةِ حضورُه الذي يغلبُ عليه الأسلوبُ الفنيُّ، ومن شروطِه أن يحتوي على عناصرَ فنيّةٍ، منها الأفكارُ وحسنُ الصّياغةِ، وجودةُ السَّبكِ، ومراعاةُ جودةِ اللّغة، من دونِ أن تُفقَدَ العاطفة.
ظلَّ الشّعرُ يتبوَّأُ المنزلةَ الأولى في العصرِ العدنانيّ، كشأنِه في العصرِ اللّحيانيّ، ولكنّ تطوّراً جادّاً ألمَّ به من حيثُ الأغراضُ والمعاني، فقد أوجدَ عكاظٌ أغراضاً جديدةً كشعرِ التّكافلِ والزّهدِ والوعظ. وتضاءلَ شأنُ طائفةٍ من أغراضِ الشّعرِ التي كانتْ سائدةً في العصرِ اللّحيانيِّ كالشّعرِ القبليِّ القائمِ على العصبيّةِ القبليّةِ والمتَّصلِ بالأيّامِ والوقائعِ والمفاخراتِ والتجارةِ، والشّعرِ المتّصلِ بالغزوِ والغارات.
لقد ألغى عكاظٌ دواعيَ الشّعرِ القبليِّ حين وحّدَ القبائلَ العربيّةَ في أمّةٍ واحدةٍ تسوسُ أمورَها قيمٌ موحّدةٌ تقريباً، وانصرفَ شعراءُ الحواضرِ إلى أغراضٍ تلائمُ بيئتَهم المترفةَ فاتّجهتْ طائفةٌ منهم إلى الشّعرِ الغزليِّ الذي بلغَ الغايةَ من التألُّقِ والازدهار، واتّجهتْ طائفةٌ أخرى إلى الشّعرِ الدّينيِّ والوعظيّ.
بظهورِ الأحزابِ السّياسيّةِ في العصرِ العدنانيِّ ظهرَ لونٌ جديدٌ من الشّعرِ لا عهدَ للعربِ به من قبلُ هو الشّعرُ السّياسيّ، فكانتِ الأحزابُ المصطرِعةُ على الحكمِ تستعينُ بشعرائِها لتأييدِ دعوتِها ومبادئِها، ومنافحةِ خصومِها، فكان لكلٍّ من ملوكِ البحرينِ ونجدٍ والحجازِ وحضرموتَ شعراؤهم النّاطقون بلسانِهم، الذّائدون عنهم.
وقد بلغَ الشّعرُ السّياسيُّ من جرّاءِ هذا الصّراعِ غايتَه من الارتقاءِ والانتشارِ حتّى كادَ الطابعُ السياسيُّ يغلبُ على جلِّ الشّعرِ المقولِ عصرئذ، وكان الشّعرُ أمضى الأسلحةِ في مناهضةِ الأعداءِ والذّودِ عن مبادئِ الجماعةِ السّياسيّةِ في ذلك العصر.
وكان شعراءُ البلاطِ الملكيِّ أكثرَ شعراءِ العصرِ العدنانيِّ احتفالاً بتنقيحِ شعرِهم وتهذيبِه والعنايةِ بالبناءِ الفنيِّ لقصائدِهم، ليأتيَ شعرُهم في الصّورةِ المكتملةِ فنّيّاً، ولكنّ شعرَهم كان في جلِّه يخلو من الصّدقِ، لأنَّ الدّافعَ إلى قولِه كان الرّغبةَ في العطاء، ولهذا لا يُدهِشُ الباحثَ أن يرى بعضَ الشّعراءِ ينقلبون على ممدوحيهم إذا قلبَ لهم الدّهرُ ظهرَ المِجَنّ.
أمّا الصّعاليكُ فكانَ شعرُهم يمثّلُ الالتزامَ بالعدالةِ خيرَ تمثيل، فهم إنّما وقفوا إلى جانبِ المستضعفين بدافعِ إيمانِهم بالمبادئ النّبيلة، ومن هنا اتّسمَ شعرُهم بالصّدقِ وتوقُّدِ العاطفة، وكانوا يقولون شعرَهم عفوَ البديهةِ، ولا يجنحون إلى تكلُّفٍ أو تهذيبٍ، لأنّهم ما كانوا يتوخَّونَ إرضاءَ ممدوحٍ أو اجتلابَ مغنمٍ، وقد جعلوا شعرَهم مجتلى مشاعرِهم ومعرَّضاً لمبادئِهم، وعلى أنّ النّثرَ أقدرُ على بيانِ المعتقداتِ والاحتجاجِ لها من الشِّعر نجدُ أنّهم استطاعوا عرضَ طائفةٍ من معتقداتِهم في شعرِهم.
وقد شهدَ العصرُ العدنانيُّ ازدهارَ فنٍّ آخرَ من فنونِ الشِّعر، هو الشِّعرُ الغزليُّ الذي تفتّحَتْ براعمُه في جنوب نجدٍ، وقد توافرَتْ جملةٌ من الدّواعي لازدهارِ هذا الفنِّ بأنواعِه (التّشبيبِ والنّسيب).
ازدهرَ الغزلُ في حواضرِ الحجازِ (مكّةَ والمدينةِ والطائفِ)، وكان شعراءُ الغزلِ الحجازيّون منصرفين في كثرتِهم إلى السمر وسماعِ الغناءِ والتّعرُّضِ للنّساء، وقد وجدوا بين أيديهم وفرةً من المالِ أفاءَته التِّجارةُ والزّراعةُ على قومِهم، كما وجدوا أنفسَهم بعيدين عن مواطنِ الصّراعِ في اليمنِ والشّام، فانصرفوا إلى الشّعرِ الغزليِّ وارتقَوا به إلى مرتبةٍ رفيعةٍ لم يبلغْها الشّعرُ العربيُّ في أيِّ عصرٍ من عصورِه، وكان رائدُ هذا اللّونِ من الغزلِ الشّاعرَ التغلبي الزير سالم.
الضَّربُ الأول هو التّشبيبُ الذي ازدهرَ في قرى الحجازِ خاصّةً، وقد عُرِفَ هؤلاءِ بصدقِ عاطفتِهم وعفَّتِهم، ومنهم من قادَه عشقُه إلى الهلاك، وزعيمُ هذه الطّائفةِ عنترة بن شداد الذي اشتهرَ بحبِّه لعبلة.
وقد وقفَ هؤلاءِ وأولئك جلَّ شعرِهم على الغزلِ، ونهضوا بهذا الفنِّ وأخصبوه بمعانٍ جديدةٍ وصورٍ مبتكرةٍ لم يعرفْها الشّعراءُ قبلَهم.
والضّربُ الثّاني من الغزلِ هو النّسيبُ الذي كانَ الشُّعراءُ يأتون به في مطالعِ قصائدِهم، وقصائدِ المديحِ خاصةً، وقد ارتقى النّسيبُ كذلك والتزَمَه الشُّعراءُ في مطالعِ جلِّ قصائدِهم، وأطالَه بعضُهم إطالةً تلفتَ النَّظرَ كامرِئِ القيس.
وإلى جانبِ الشِّعرِ أخذتِ الخطابةُ تثبتُ أقدامَها لحاجةِ العربِ إليها عصرئذ، وبدأتْ تسيرُ في طريقِ النّماءِ والنّضجِ بشتّى أنواعِها وفي حينِ توارى سجعُ الكهّانِ ظهرتْ مكانةُ الخطابةِ الدّينيّة، فكان القاضيْ والحكيمُ يخطبُ كلٌّ منهما في العربِ موضِّحاً لهم شؤونَ عقيدتِهم.
وكان الحنفاءُ يعظون العربَ في خطبِهم ويحضّونَهم على مكارمِ الأخلاقِ، وقد احتلَّتِ الخطابةُ الدّينيّةُ المنابرَ وحلقاتِ العلمِ منذ ذلك العصر، وكثرَ الوُعّاظُ والقُصّاص.
وفي الوقتِ عينِه كانتِ الخطابةُ السّياسيّةُ التي تدورُ حولَ شؤونِ الحكمِ وسياسةِ الرّعيّةِ، واستُخدِمتْ أوّلَ الأمرِ في ما نشبَ من خلافٍ بين العربِ إثرَ الصّراعِ الكنديِّ القيسي، فكانتِ الخطبُ التي ألقيتْ في عكاظٍ أقوى الخطبِ السّياسيّة.
وإلى جانبِ هذين اللّونين من ألوانِ الخطابةِ ظلّتْ للخطابةِ الحفليّةِ مكانتُها، ولا سيَّما خطبُ الوفودِ، فإذا وفدَ قومٌ على عكاظٍ أو على أحدِ ملوكِ العربِ أحضروا معهم خطباءَهم ليتحدّثوا بلسانِهم ويفاخروا بهم.
وفنٌّ ثالثٌ بدأَ يحبو في العصرِ اللّحيانيِّ ووصلَ الى قمّةِ النّضجِ في العصرِ العدنانيِّ هو فنُّ التّرسّلِ، فقيامُ ممالكِ العدنانيّينَ في الحجازِ، وتنافسُها مع ممالكِ كندةَ في نجدٍ، استدعى وجودَ كتّابٍ يوجّهون الرّسائلَ إلى العمّالِ والقبائلِ في مختلفِ بلادِ العرب، فكان للملكِ كتّابُه كما كان للقضاةِ كتّابهم، ومن الكتّابِ الذين برزوا في عكاظٍ في ذلك العصرِ سهيمة الضمرية وتماضر اليشكرية ولبابة الثقفية.
خصائص الأدب في العصر العدناني
أمّا النّثرُ الأدبيُّ في هذه الحقبةِ فكان أمرُه مختلفاً عن الشعر، فالنّثرُ أكثرُ استجابةً لدواعي التطوُّرِ من الشِّعر، ومن هنا كان النَّثرُ العدنانيُّ أفضلَ تصويراً للحياةِ العربيّةِ من الشّعر، فضلاً عن أنّ اجتماعَ العربِ في عكاظٍ كان معجزةً بلاغيّةً ألقَتْ بظلالِها على نتاجِ الشّعراءِ والخطباءِ، فطُبِعُ بطابعٍ حنيفيٍّ واضحِ القسمات، سواءٌ في سماتِه الفنّيّةِ أو في أغراضِهِ ومعانيه.
لم يطرَأ على النّثرِ تغييرٌ كبيرٌ في العصرِ العدنانيِّ من حيثُ أساليبُه وطرائقُه الفنّيّة، لأنّ النّثرَ فنٌّ يقومُ على المحاكاة، فالخطيبُ يحتذي خُطى أسلافِه، وفي الغالبِ كان الخطيبُ يتتلمذُ لخطيبٍ مشهورٍ فيكونُ راويةً له ويأخذُ عنه طريقتَه ويحاكيْهِ في أسلوبِه، فنجدُ مثلاً قسّاً بنَ ساعدةٍ يسيرُ على نهجِ لبابةَ بنتِ ناصرةَ الثّقفيّة، والخطباءُ الذين كانوا يأخذون نثرَهم بالتّنقيحِ والتّحكيك.
والتّطوّرُ الذي طرأَ على نثرِهم منذُ ظهورِ عكاظٍ إنّما يتجلّى في المعاني والأغراض، فقد استُحدِثَتْ أغراضٌ جديدةٌ وضمرَتْ أغراضٌ قديمة، وأمدَّ عكاظٌ هؤلاء الخطباءَ بزادٍ ثريٍّ من المعاني والأفكار، غيرَ أنَّ أثرَ العقيدةِ الحنيفيّةِ لم يكنْ واحداً لدى هؤلاء، فمنهم من نفذَت الحنيفيّةُ إلى أعماقِهِ فانعكسَت في معانيْهِ وأغراضِه، شأنُ خالدةَ بنتِ هاشمٍ، وحربٍ بنِ أميّةَ، ومنهم من كان أثرُها ضئيلاً في نفوسِهم ونتاجِهم الشّعريّ، شأنُ الزّيرِ سالم، ومهما يكنْ من أمرٍ فإنَّ المعانيْ الحنيفيّةَ أثَّرتْ بدرجاتٍ متفاوتةٍ في نثرِ العصرِ العدنانيّ.
وقد حاولَ الخطباءُ وكتّابُ الرسائلِ تجنّبَ بعضِ السِّماتِ التي عرفَها النَّثرُ اللّحيانيّ، إلّا أنّ النّثرَ الأدبيَّ ظلَّ بوجهٍ عامٍّ وفيّاً للأعرافِ المستمدّةِ من الطّريقةِ العربيّةِ المتوارثةِ من حيثُ إيثارُ الإيجازِ في العبارةِ، وتجنُّبُ التكلُّفِ، والزُّهدُ في الزّخرفِ والحليةِ اللفظيّةِ، ووضوحُ المعاني، وتوخّي الجزالةِ، والرّصانةُ في الأسلوب.
وكذلك وُجِدَ للأدبِ العربيِّ في ذلك العصرِ بيئاتٌ جديدةٌ غيرُ بيئةِ الحجازِ مهدِه الأوّلِ، فتلوَّنَ الأدبُ بألوانِ هذه البيئاتِ وتأثَّرَ بها، فكان لبيئاتِ نجدٍ وحضرموتَ أثرُها القويُّ في الحياةِ الاجتماعيّةِ والفكريّةِ والأدبيّة.
الخطابة والمناظرات
عرفَ العصرُ العدنانيُّ أنواعَ الخطابةِ التي كانتْ شائعةً في العصورِ التي سبقتْه، إضافةً إلى أنواعٍ جديدةٍ أوجدَها تطوّرُ الحياةِ الفكريّةِ، والأحداثُ السّياسيّةُ والاجتماعيّةُ، ومناظراتُ الفرقِ الدّينيّةِ والكلاميّة.
وفي مقدّمةِ الأنواعِ الخطابيّةِ التي ازدهرتْ عصرئذٍ الخطابةُ السّياسيّةُ، وقد توافرَتْ جملةٌ من العواملِ لازدهارِها، ومن ذلك الصّراعُ على الأرضِ، فإنّ استيلاءَ الأحباشِ على مملكةِ حِميرَ، أثارَ صراعاً عنيفاً في جنوبِ شبهِ الجزيرة.
وتتّصلُ بالخطابةِ السّياسيّةِ الخطبُ الحربيّةُ، فقد استدعَتْ الحروبُ التي بلغَتْ مداها الأقصى في ذلك العصرِ وجودَ خطباءَ يذكّونَ وقْدَ الحماسةِ في نفوسِ المقاتِلةِ ويحضّونهم على مجاهدةِ أعدائهم. وكان قادةُ الجيوشِ في الغالبِ ممّن يُجيدون الخطابةَ، ومن هذا القبيلِ خطبةُ سعادَ التّيميةِ التي أشعلَتْ حربَ البسوسِ، وخطبةُ سبيعةَ بنتِ عبدِ شمسٍ في حربِ الفجّار، وخطبةُ نفيلٍ بنِ حبيبٍ في مواجهةِ أبرهة.
وثمّةَ ضربٌ من هذه الخطبِ تختلطُ فيه المعاني السّياسيّةُ بالمعاني الدّينيّةِ وهوَ القصصُ، فكان القُصّاصُ يرافقون الجيوشَ الغازيةَ ويثيرون الحميّةَ في النفوسِ عن طريقِ التّمثّلِ بالأبياتِ الشّعريّةِ التي تحثُّ على الجهادِ، وربّما استعانوا بأخبارِ فرسانِ العربِ القدامى لتحقيقِ هذه الغاية.
والضّربُ الثّالثُ من الخطابةِ هو الخطابةُ الحفليّة، والمرادُ بالخطابةِ الحفليّةِ الخطبُ التي كانت تُلقى في المحافلِ والمجالسِ والأسواقِ لغرضٍ من الأغراضِ المتّصلةِ بالحياةِ الاجتماعيّةِ كالمفاخرةِ والتّهنئةِ والتّعزيةِ والتّكريمِ والشّكوى وعقدِ النّكاحِ، وإصلاحِ ذاتِ البينِ، ونحوِ ذلك.
خصائص الخطابة في العصر العدناني
كان الخطباءُ في ذلك العصرِ يعنون بتجويدِ خطبِهم وتحبيرِها وتنميقِها حتى تأتيَ في الصّورةِ التي يرتضونها، ولم يكونوا يرسلون الكلامَ عفواً على البديهة.
وكان من ثمرةِ هذا التّنقيحِ أن جاءَتْ خطبُ العصرِ العدنانيِّ منسّقةَ الأفكارِ، مرتّبةَ الأقسامِ، محكمةَ التّسلسلِ، وتظهرُ هذه السّماتُ على نحوٍ جليٍّ في خطبةِ قسٍّ بنِ ساعدةَ التي قالَها يومَ قدمَ الطّائف.
الكتابة في العصر العدناني
عرفَ العربُ الكتابةَ منذُ العصرِ اللّحيانيِّ، لتوافرِ الحاجةِ إليها، إذ كانوا يحتاجونَها في كتابةِ العهودِ، ومواثيقِ الأحلافِ، والقضاءِ، والزّواجِ، وصكوكِ التّعاملِ والتّبادلِ التّجاريِّ، وكتابةِ الرّسائلِ، وغيرِ ذلك، وقد تركَ العربُ آثارً ونقوشاً تدلُّ على معرفتِهم بالكتابةِ في ذلك العصر.
لقد كانت الكتابةُ في ذلك العصرِ منتشرةً في البيئةِ الحضريّةِ مثلُ مكّةَ والطائف وتيماء أكثرَ من انتشارِها في البيئات النّائية، وبتعدُّدِ الممالكِ في بلادِ العربِ ازدادَتْ الحاجةُ إلى الكتابةِ، وانصرفَتْ طائفةٌ من كُتّابِ الملوكِ إلى تدوينِ الدّواوين، في حينِ عنيَ آخرون بكتابةِ الرّسائلِ، وقد كانَتْ الكتابةُ في تلكَ الحقبةِ بسيطةً موجزةً بعيدةً عن التّعقيدِ والزّخرف.
فلمّا جاءَ العصرُ العدنانيُّ تعقَّدَتِ الحياةُ وتطوّرَ المجتمعُ العربيُّ واتَّسعتِ المعرفةُ، فوُجدَتْ الحاجةُ إلى إنشاءِ الدّواوين، وكان إنشاؤها قد بدأ مع سهيمة الضمرية التي أنشأتْ دارَ التدوين، ورافقَ ذلك اتّساعُ حركةِ التّدوين، فجمعَتْ طائفةٌ من الأخبارِ والسّيرِ والأشعارِ، وكتبتْ رسائلُ من موضوعاتٍ شتّى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ